الاستاذة أسماء عبد الكريم تكتب عن أثر اللغة العربية على الشعر العبري

الشعر العربي انعكاساته وتأثيره على الشعر العبري

تمهيد :-

اهميته ومكانته في اللغة العربية 

تعد ُاللغة – عند العرب – معجزة الله الكبرى في كتابه المجيد . لقد حمل العرب الإسلام إلى العالم، وحملوا معه لغة القرآن العربية واستعربت شعوب غرب آسيا وشمال إفريقية بالإسلام فتركت لغاتها الأولى وآثرت لغة القرآن، أي أن حبهم للإسلام هو الذي عربهم، فهجروا ديناً إلى دين، وتركوا لغة إلى أخرى لقد شارك الأعاجم الذين دخلوا الإسلام في عبء شرح قواعد العربية وآدابها للآخرين فكانوا علماء النحو والصرف والبلاغة بفنونها الثلاثة : المعاني ، والبيان ، والبديع . وهي من أقدم اللغات التي ما زالت تتمتع بخصائصها من ألفاظٍ وتراكيبٍ وصرف ونحو وأدب وخيال، مع الاستطاعة في التعبير عن مدارك العلم المختلفة. ونظراً لتمام القاموس العربي وكمال الصرف والنحو فإنها تعد أمّ مجموعةٍ من اللغات تعرف باللغات الأعرابية أي التي نشأت في شبه جزيرة العرب ، أو العربيات من حميرية وبابلية وآرامية وعبرية وحبشية، أو الساميات في الاصطلاح الغربي وهو مصطلح عنصري يعود إلى أبناء نوح الثلاثة : سام وحام ويافث. فكيف ينشأ ثلاثة أخوة في بيت واحد ويتكلمون ثلاث لغات ؟ إن اللغة العربية أداة التعارف بين ملايين البشر المنتشرين في آفاق الأرض ، وهي ثابتة في أصولها وجذورها، متجددة بفضل ميزاتها وخصائصها . إن الأمة العربية أمة بيان والعمل فيها مقترن بالتعبير والقول، فللغة في حياتها شأن كبير وقيمة أعظم من قيمتها في حياة أي أمة من الأمم. إن اللغة العربية هي الأداة التي نقلت الثقافة العربية عبر القرون، وعن طريقها وبوساطتها اتصلت الأجيال العربية جيلاً بعد جيل في عصور طويلة، وهي التي حملت الإسلام وما انبثق عنه من حضارات وثقافات، وبها توحد العرب قديماً وبها يتوحدون اليوم ويؤلفون في هذا العالم رقعة من الأرض تتحدث بلسان واحد وتصوغ أفكارها وقوانينها وعواطفها في لغة واحدة على تنائي الديار واختلاف الأقطار وتعدد الدول. واللغة العربية هي أداة الاتصال ونقطة الالتقاء بين العرب وشعوب كثيرة في هذه الأرض أخذت عن العرب جزءاً كبيراً من ثقافتهم واشتركت معهم – قبل أن تكون ( الأونيسكو ) والمؤسسات الدولية – في الكثير من مفاهيمهم وأفكارهم ومثلهم، وجعلت الكتاب العربي المبين ركناً أساساً من ثقافتها، وعنصراً جوهرياً في تربيتها الفكرية والخلقية .إن الجانب اللغوي جانباُ أساسي من جوانب حياتنا، واللغة مقوم من أهم مقومات حياتنا وكياننا، وهي الحاملة لثقافتنا ورسالتنا والرابط الموحد بيننا والمكون لبنية تفكيرنا، والصلة بين أجيالنا، والصلة كذلك بيننا وبين كثير من الأمم إن اللغة من أفضل السبل لمعرفة شخصية أمتنا وخصائصها، وهي الأداة التي سجلت منذ أبعد العهود أفكارنا وأحاسيسنا. وهي البيئة الفكرية التي نعيش فيها، وحلقة الوصل التي تربط الماضي بالحاضر بالمستقبل. إنها تمثل خصائص الأمة، وقد كانت عبر التاريخ مسايرة لشخصية الأمة العربية، تقوى إذا قويت، وتضعف إذا ضعفت  .لقد غدت العربية لغة تحمل رسالة إنسانية بمفاهيمها وأفكارها، واستطاعت أن تكون لغة حضارة إنسانية واسعة اشتركت فيها أمم شتى كان العرب نواتها الأساسية والموجهين لسفينتها، اعتبروها جميعاً لغة حضارتهم وثقافتهم فاستطاعت أن تكون لغة العلم والسياسة والتجارة والعمل والتشريع والفلسفة والمنطق والتصوف والأدب والفن .واللغة من الأمة أساس وحدتها، ومرآة حضارتها، ولغة قرآنها الذي تبوأ الذروة فكان مظهر إعجاز لغتها القومية .

إن القرآن بالنسبة إلى العرب جميعاً كتاب لبست فيه لغتهم ثوب الإعجاز، وهو كتاب يشد إلى لغتهم مئات الملايين من أجناس وأقوام يقدسون لغة العرب، ويفخرون بأن يكون لهم منها نصيب . وأورد هنا بعض الأقوال لبعض العلماء الأجانب قبل العرب في أهمية اللغة العربية. يقول الفرنسي إرنست رينان : (( اللغة العربية بدأت فجأة على غاية الكمال، وهذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر، فليس لها طفولة ولا شيخوخة .)) . ويقول الألماني فريتاغ : (( اللغة العربية أغنى لغات العالم )) . ويقول وليم ورك : (( إن للعربية ليناً ومرونةً يمكنانها من التكيف وفقاً لمقتضيات العصر. )) ويقول الدكتور عبد الوهاب عزام : (( العربية لغة كاملة محببة عجيبة، تكاد تصور ألفاظها مشاهد الطبيعة، وتمثل كلماتها خطرات النفوس، وتكاد تتجلى معانيها في أجراس الألفاظ، كأنما كلماتها خطوات الضمير ونبضات القلوب ونبرات الحياة . )) ويقول مصطفى صادق الرافعي : (( إنما القرآن جنسية لغوية تجمع أطراف النسبة إلى العربية، فلا يزال أهله مستعربين به، متميزين بهذه الجنسية حقيقةً أو حكماً .)) ويقول الدكتور طه حسين : (( إن المثقفين العرب الذين لم يتقنوا لغتهم ليسوا ناقصي الثقافة فحسب، بل في رجولتهم نقص كبير ومهين أيضاً.)) 

 اما إذا تطرقنا الى الشعر فلابد نذكر العرب ، فهم جهابذة وأساتذة الأوزان الشعرية ، ومن منطلق تطور الأدب اليهودي في ظل الحضارة الإسلامية العربية فكان لأبد أن

يتأثر الشعر العبري بالشعر العربي ، وأعترف النقاد والمتخصصين اليهود بهذا صراحةَ في كتاباتهم حيث جاء في كتاب ” الأدب الصهيوني في الحديث بين الارث والواقع” لمؤلفه جودت السعد، ما قاله المترجم والناقد اليهودي الشهير في كتابه “تحكموني” : إن الشعر البديع الحافل باللآلئ قد كان بادئ الأمر ملكاً مقصوراً على بني يعرب وحدهم وقد وزنوه بموازين صادقة , وهم يفوقون في شعرهم شعراء العالم قاطبة، ومع أن لكل أمة شعراءها فإن جميع شعرهم لا قيمة له ولا وزن مقابل شعر العرب ،فالعرب وحدهم هم المستأثرون بالشعر العذب في لفظه الجميل في فحواه ومعناه . ثم يتحدث الناقد الحريزي عن الشعر العبري في الأندلس وعن تأثير الشعر العربي في الشعر العبري فيقول : أن شعبنا بعد جلائهم عن أرض كنعان قد قطن الكثيرون منهم مع بني يعرب في أوطانهم , وألقوا التحدث بلغتهم والتفكير بتفكيرهم . وبامتزاجهم بهم تعلموا منهم صناعة الشعر . وحين كان آباؤنا يقطنون في مدينة القدس ما كانوا يعرفون الشعر الموزون في اللغة العبرية . أما أسفار أيوب والأمثال والمزامير فجملها قصيرة , وأبياتها سهلة بسيطة وما أشبهها بالسجع وهي بعيدة عن أن تكون نظماً جميلاً موزوناً مقفى « . اذا كان هذا الاعتراف قد ورد لسان صهيوني يعيش في الأرض المحتلة , مؤكداً دور العرب في بلورة فكر اليهود الأدبي فهل بقي تفسير للسلوكية الصهيونية الممارسة ضد العرب غير العنصرية ؟

 وجاء في بحث بعنوان  ” المكونات العربية في الشعر العبري” لمؤلفه أمينة بوكيل ، أن الكثير من مواضيع الشعر العربي انتقلت الى الشعر العبري ، ووظفت لغايات جمالية متعددة ، موضحة أن أكثر المكونات الشعرية العربية التي تأثر بها شعراء اليهود كان المكون الإيقاعي وهو أقوي الوسائل تأثيرا في المتلقي حيث يظهر في شكله الخارجي الذي يحققه الوزن والقافية ، وفي الشكل الداخلي أيضا من خلال انسجام وتآلف الكلمات الحروف ، وقد أدرك الشعراء اليهود أهمية هذا العنصر في الشعر العربي الذي يعد بمثابة العمود الفقري للشعر فإذا استوى يستوى معه الشعر، وضربت مثل بالشاعر اليهود  موسى بن عزرا ” أشهر شعراء اليهود في الاندلس ” الذي أهتم بهذا المكون في أعماله الشعرية

 وأشارت ” بوكيل ” في بحثها أن أهم موضوع برز فيه موسى بن عزرا هو الحب ، حيث  ألهمه كل من الشعر العربي وتجربته الشخصية في ذلك ، كما ساعدته البيئة الاندلسية في أن يستقى منها أجمل الصور ، وعبر عن هذا الموضوع في قصائد مطولة ،مشيرة إلى أن شعر ” بن عزرا” تميز بخفة وتنوع الأوزان ، المقتبس من الشعر العربي القديم وأهم العناصر العربية التي انتقلت إلى شعره ، موضحة  أن ” بن عزرا” وظف بكثرة صورة ” الحمامة “النائحة ” في شعره لما توحى به من أجواء حزينة ، وهى صور نجدها أيضاً في الشعر العربي في قوله

حمامة في الحديقة عشها      ..        بين الأريح فلما هذا البكاء؟

         ابك شريدا وابك سليبا          ..         سلبته المصائب لقاء الأحبه

       هاتي جناحيك كي أطير وأحط   ..       بأرضهم متمرغا في أرضهم الحبيبة

وتضيف ” بوكيل أنه من المعروف أن مخاطبة الحمام في مسألة الحب أمر شائع ومعروف في الشعر العربي ، فالحمامة بإمكانها أن تلعب دور الرسول بين الأحبة الذين تفصلهم المسافات البعيدة ويوحي سجعها بأنه بكاء حزين عن حبيب قد ضاع. كما أن ” بن عزرا ” نفسه اعترف بتأثير الشعر العربي على الشعر العبري

 في كتابه “المحاضرة والمذاكرة” قائلا : إن الشعر عند العرب أمر طبيعي بينما هو عند سائر الشعوب أمر اصطناعي ولما كان الأمر كذلك ولما كان العرب قد وضعوا لأنفسهم قوانين وقواعد خاصة من أجل تزيين شعرهم فالقصائد التي تحققت فيها هذه القوانين والقواعد تعد في نظرهم قصائد ممتازة . أما القصائد التي ينقصها ذلك فهي قصائد ممجوجة لا طعم لها وعلى ذلك فما أحرى الشعراء العبريين أن ينسجوا على طريقتهم جهد المستطاع .

 وكان من أوائل الشعراء اليهود الذين استخدموا نظم الشعر على نفس أوزان الشعر العربي كان ” دوناش بن لبراط” ويعتبر أول يهودي يدخل باب نظم الشعر المتحرر من الناحية الدينية التي نظموا شعرهم في إطارها ، جاء ذلك في كتاب ” الاحتيال عند الحريزي ” لمؤلفه الباحث هيثم محمود إبراهيم، والذي أكد أن اليهود لم يتطرقوا إلى الكتابات الأدبية والشعرية إلا بعد احتكاككم بالعرب والمسلمين ومن ثم إعجابهم بالمؤلفات العربية الشعرية والنثرية ، فتولدت لديهم الغيرة على لغتهم العبرية ، وبدأوا في تقليد الشعر العربي الموزون والمقفي ونظموا شعراً عبرياً على نفس أسس القصيدة العربية ، ، ثم اتجهوا إلى النثر وتنوعت كتاباتهم بين نثر فلسفي وآخر ديني ، إلى أن تمكنوا من الخوض في باب النثر الأدبي

وعن نظم الشعر العبري التي تأثرت بنظم الشعر العربي يقول الدكتور محمد فتحي البغدادي في بحث له تحت عنوان ” المؤثرات العربية في شعر يهود الأندلس ” إنه  ولم يقتصر أمر إتقان اليهود للسان العربي على التأليف والترجمة ، وإنما تعدى ذلك

إلى نظم الأشعار ، فهذه أبيات أوردها ابن سعيد بلسان إسماعيل بن نغريلة      ( صمؤيل  الناجيد ) حيث  يقول فيها:

      يا غائباً عن ناظري لـم يغب                عن خاطري رفقاً على الصب

فماله في البـعد من سلـوة                     وماله سول سـوى القــرب

صورت في قلبي فلم تبتعـد                  عن ناظر الفــكرة بالـحب

        ما أوحشت  طلعة من لم يزل                  ينقل من طرف إلى قلــب

وأوضح “البغدادي” في بحثه أن شعراء اليهود في الأندلس قد استعانوا في أحيان كثيرة ببعض المفردات العربية ، فأخذوها بنفس دلالتها فكانت الألفاظ العربية في شعر يهود الأندلس ، مرجعا ذلك إلى أن اللغة العربية لم تنقطع يوماً عن الاستخدام ، سواء كلغة حديث أو كلغة كتابة وتأليف ، وأن العرب قد حافظوا عليها ، وطوروها باستمرار لتواكب المستجدات الحضارية والتاريخية من حولهم. وقد زادهم تمسكا بها ، وحرصاً عليها أنها لغة القرآن الكريم ، والسنة النبوية العطرة ، فأدركوا أن بقاءهم مشروط ببقائها، وتقدمهم مرهون بمدى قدرتها على التواصل والاستمرار فضلاً عن أن بعض الألفاظ العربية استحسنها شعراء اليهود ، وهو ما دعاهم إلى أن ينقلوها كما هي وهذا سر وقوة اللغة العربية .

ومن الله التوفيق

الاستاذة

                                                       أ.م .اسماء عبد الكريم عبد الرحمن 

                                                    جامعة سامراء / كلية الآداب 

                                                  قسم اللغة العربية

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *